روسيا- موت نافالني وصراع أنماط عالم ما بعد الحقيقة

المؤلف: نبيل الريحاني11.15.2025
روسيا- موت نافالني وصراع أنماط عالم ما بعد الحقيقة

وسط ضجيج الأحداث الجسام، تناقلت وسائل الإعلام خبر وفاة المعارض الروسي البارز، أليكسي نافالني، داخل أحد السجون الروسية، لتثير وفاته المريبة سيلاً من التساؤلات العميقة حول الملابسات الحقيقية للوفاة وأبعادها الخفية.

هذه التساؤلات، على الأرجح، ستبقى معلقة في فضاء الغموض، لتتحول إلى لغز آخر يضاف إلى سلسلة الألغاز التي تزيد من سوداوية المسار الذي يتخذه عالمنا اليوم، نحو وجهة تثير مخاوف متزايدة لدى شرائح واسعة من سكان هذا الكوكب المضطرب.

"موت فرد هو مأساة، أما موت الآلاف فهو مجرد إحصائية"، هكذا تحدث الزعيم السوفياتي الراحل، جوزيف ستالين، عن إزهاق الأرواح في اللحظات التاريخية الفارقة، مستندًا، بشكل مبطّن، إلى رؤية داروينية للتاريخ، مستفيدًا من مقولة "البقاء للأقوى" في صراع لا يعرف الرحمة.

في كلمات ستالين تكمن إشارة عميقة إلى جوهر الدولة الروسية، في مراحلها المختلفة والمتناقضة، وصولًا إلى الصراع الدموي الشرس.

وهو الخيط الخفي الذي يبدو أنه كان متأصلًا بقوة في أعماق عميل الاستخبارات الروسية، الذي أصبح لاحقًا قيصر روسيا القوي، ذلك الذي أعاد إحياء أمجاد الاتحاد السوفياتي، دون الحاجة إلى محتوى أيديولوجي راسخ، أو راية مزينة بالمطرقة والمنجل.

رجل يسعى جاهداً اليوم لترميم ستار حديدي يهدف إلى إبعاد المخاطر عن موسكو، وهو الهاجس الذي تفاقم مع تحرك قوات فاغنر نحو العاصمة الروسية، بتوجيهات وتهديدات من قائدها الراحل هو الآخر، يفغيني بريغوجين، في ظروف غامضة وملغزة.

تعيش روسيا اليوم رحيل نافالني وهي منخرطة في حرب غير تقليدية، بالمعنى الإجرائي والرمزي، في أوكرانيا، وتسعى لتحقيق نصر وجودي ذي طابع تاريخي، كما ظهر من الحوار الذي جمع الرئيس فلاديمير بوتين بالصحفي الأمريكي تاكر كارلسون، والذي أثار حنق الإدارة الأمريكية وعواصم غربية، اعتبرته مجرد دعاية لمن أصبح في نظرها طاغية ودكتاتورًا، بل ومجرم حرب يقود دولة مارقة عن سرب الحضارة والتنوير الذي يقوده المعسكر الليبرالي.

لهذا السبب بالتحديد، أصر بوتين على استحضار الخلفية الأكاديمية للصحفي الأمريكي، الذي بات مهددًا بملاحقات قضائية محتملة، لما اعتُبر مديحًا أفرط فيه على روسيا، وما يقدمه حاكمها لشعبه، مقابل انتقاد لاذع لفشل وفساد النخبة الحاكمة في الولايات المتحدة، وعموم الغرب الليبرالي.

خيط ناظم

استدعى بوتين التاريخ واستحضره، ليس فقط لتأطير حديثه عن الحرب في أوكرانيا، وإنما أيضًا للتوسع في الحديث عن الأزمة العميقة والبنيوية التي يمر بها الغرب الليبرالي.

لقد صرح بوتين مرارًا وتكرارًا بأن الغرب، بانقياده لليبرالية المتوحشة، قد فقد ما تبقى له من عقل وجودي وسياسي واجتماعي، وأصبح خطرًا على الإنسانية منذ أن انطلق في إعادة تعريف العائلة وشرع زواج المثليين، واتجه أكثر فأكثر نحو مصادرة الأطفال، رمزيًا وفعليًا، من أسرهم، بل ومصادرة طفولتهم لصالح أيديولوجية، أكد الرئيس الروسي أنها لا تقود إلا إلى خراب الإنسانية ونهاية مجتمعها الواسع بتدهور تدريجي.

لم ينس بوتين أن يتحدث أيضًا عن عدم تقبل الولايات المتحدة لفكرة نشوء عالم متعدد الأقطاب، مما دفع الغرب، بقيادة واشنطن، إلى مواجهة منافسيه وخصومه، وحتى المختلفين معه، بإجراءات وإطلاق أزمات، بل والاستثمار في صراعات دامية، كي يستبق أي نزعة استقلالية يمكن أن يراها لدى روسيا، أو الصين، أو كوريا الشمالية، أو إيران، فضلاً عن دول أقل شأنًا وقوة تدور في فلكها.

هكذا ظهر الرئيس الروسي جامعًا لصور متعددة تقابلت فيها الروح الروسية القادمة من تاريخ عريق، فهو الآن قيصر مهيب ذو إرادة فولاذية، وزعيم دولة أنعشها بعد أن كانت على وشك السقوط في براثن الضعف والوهن، وهو إلى جانب ذلك أرثوذكسي متدين يحمل لواء الدفاع عن الفطرة والعائلة والقيم النبيلة.

روسيا بوتين، التي توفي فيها المعارض أليكسي نافالني في أحد سجونها في ظروف تثير الشكوك، لا ترى في الديمقراطية الغربية ما يغريها بأن تتخذها دستورًا لألعابها السياسية والفكرية والاجتماعية، فهي عند بوتين وصفة فاشلة استنفدت أغراضها، وأفرغت التجربة الغربية من جوهرها، مما جعل الشرق يبحث عن مخرج من هذا المأزق التاريخي الذي تجلى في إفلاس دول وظهور السترات الصفراء في فرنسا، وصعود الشعبوية في الولايات المتحدة، تلا ذلك وصول رئيس متقدم في السن إلى البيت الأبيض.

معركة رمزيات وسرديات محتدمة، يرد عليها المعسكر الغربي بوصف ساخر للديمقراطية الروسية البديلة، تلك التي بدأت تجد صدى لدى دول سئمت الأسلوب الغربي في التعامل معها، كما حدث في العديد من الدول الأفريقية.

وصف يراها أشبه بمتحف للتاريخ الطبيعي، تنتشر في قاعاته حيوانات محنطة تبدو للوهلة الأولى حية تكاد تتحرك بين الحين والآخر، في حين أنها فارقت الحياة منذ زمن بعيد، فتوهم الناظر إليها بالحياة وهي غارقة في العدم.

صراع الأنماط

هكذا تبدو الديمقراطية الروسية في نظر المعسكر الغربي: صلاحيات مطلقة متراكمة في يد زعيم فرد لا يمكن معارضة إرادته، ولا يوجد ثقل موازٍ له، فضلاً عن معارضة تهدد سلطته.

في روسيا بوتين، ستجد كل شكليات الدولة الحديثة من مؤسسات سيادية وأخرى مدنية، مع طيف واسع من وسائل الإعلام، إضافة إلى مجتمع حزبي يسمح بوجود بعض المنابر والأصوات المعارضة التي تكسر الصورة النمطية المعروفة عن النظم الدكتاتورية، كما استقرت في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية من القرن العشرين.

ديمقراطية تتحول فيها الإنجازات إلى أساطير تروج لها أجهزة الدعاية، في شكل مكرمات رئاسية لا تنتهي، تجسد حكمة الرئيس وسياسته الرشيدة وقراراته المحكومة بالنجاح الحتمي والبارع.

من هذا المنظور، يتهم المعسكر الليبرالي روسيا، كما تتهمه هي، بأن الحياة السياسية والاجتماعية فيها، رسميًا وشعبيًا، مجرد حفلة تنكرية مفتوحة، يغيب فيها الجوهر الأخلاقي الحقيقي، ويعاد فيها إنتاج الاستبداد، وتتحول فيها المكاسب البشرية في الحرية واستقلال الإعلام والفصل بين السلطات إلى مسميات تدل على عكس تطبيقاتها.

وهو ما يجعلنا نفهم لماذا أصبحت منصات التواصل الاجتماعي والهجمات السيبرانية من أكثر ساحات القتال المفضلة لدى موسكو، حيث تجيد منازلة الغرب بأحدث اختراعاته وصيحاته، وما توصل إليه من أدوات لصنع الرأي العام والتأثير عليه.

في هذه الرؤية، تصبح وفاة المعارض نافالني المقابل الصارخ لدور روسيا الفعلي في عدد من الصراعات الدامية التي ابتلي بها عالم اليوم، وأثقلت كاهله، كما هو الحال في سوريا وليبيا وغيرها، وفي المقابل، يصبح الموقف الأمريكي والغربي من روسيا على هذا الصعيد المقابل الصارخ أيضًا؛ لانخراطه في دعم المجازر التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي ضد الفلسطينيين في غزة وغيرها.

في هذا السياق، جاءت المقارنات التي ساقها وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، في أكثر من مناسبة بين الحربين في أوكرانيا وغزة، داعيًا كل من أزعجته صور الحرب ومآسيها في أوكرانيا إلى إلقاء نظرة على مجريات الحرب الإسرائيلية على غزة.

إدارة الفوضى

هل هي الفوضى الخلاقة التي تحدثت عنها وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة، كوندوليزا رايس، وهي تشير إلى رؤية الولايات المتحدة للشرق الأوسط والعالم عشية الغزو الأمريكي للعراق، وقد وصلت (تلك الفوضى) إلى مرحلة متقدمة باتت فيها صراعًا مكشوفًا وخليطًا من المواقف المتضاربة وخطوط اشتباك ساخنة ودامية، بل ونذر حروب عدة، بعضها غير بعيد عن الصين؟

ربما ذلك وأكثر، فما هو ظاهر للعيان يتمثل في معركة أوسع من أي رقعة قطرية، تتعلق بنظام عالمي قائم، وآخر بديل يسعى إلى الانخراط بقوة أكبر في المشهد الدولي، ويخوض معارك لاستعادة المساحات والمجالات ذات الأهمية الحاسمة.

في مثل هذا الصراع، تتأرجح موازين القوى في مواجهة شرسة، تستخدم فيها كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة، والمبررات الحقيقية والمفبركة، من أجل حجز مقعد قيادي متقدم في عالم تشير بوادر مرحلة ما بعد الذكاء الاصطناعي إلى أن البشرية لن تكون - مستقبلاً - كما عرفناها من قبل؛ نظرًا لعدة اعتبارات، لعل من بين أهمها التقدم غير المسبوق والمتزامن لإمكانيات مخيفة للاستفادة من أكثر الاكتشافات العقلية رعبًا، وفي الوقت نفسه مواجهة مستوى غير مسبوق من القدرة على التزييف وخلق عوالم أخرى افتراضية ومعززة.

مات نافالني.. بينما تستمر الحرب الإسرائيلية على غزة، والحرب التي تشنها روسيا على أوكرانيا.. في رقعة شطرنج دولية يتقابل فيها سيدا البيت الأبيض والكرملين.. مما يفسح المجال لحكومة يمينية متطرفة كتلك التي يقودها نتنياهو لوصف الجيش الذي يرتكب واحدة من أبشع المجازر ضد المدنيين أطفالاً ونساء وعزلًا بأنها حرب نظيفة تُدار من قبل جيش هو "الأكثر أخلاقية في العالم"..!!

مفارقات.. يراها البعض علامة من علامات "الأيام الأخيرة".. لزمن استنفد أغراضه.. بعد أن مني بإفلاس أخلاقي صارخ.. شاع معه كسل عقلي بات يرى البحث فيها مجرد ترف فكري لا يقود إلى تغييرها، بينما تتمسك أصوات بأن رصدها وتفكيكها مدخل لإدراك ما تيسر من شفرة مستقبل القرية الكونية الظالم أهلها.. بنحو.. أو بآخر.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة